هناك أمور لا يجد الإنسان نفسه مخيراً فيها !
حقاً إن الإنسان لم يكن مخيراً من جهة الوطن الذى ولد فيه ، والشعب الذى نشأ بينه ، و من جهة الوالدين اللذين ولداه ، نوع البيئة التى أحاطت بطفولته وتأثيرها عليه ، وكذلك نوع التربية التى عومل بها.
ولم يكن الإنسان مخيراً من جهة جنسه ، ذكراً كان أو أنثى . ولم يكن مخيراً من جهة شكله ولونه ، وطوله أو قصيره ، ودرجة ذكائه ، وبعض المواهب التى منحت له أو التى حرم منها ، و ما ورثه عن والديه .. الخ.
و لكن الإنسان فى تصرفاته و أعماله الأدبية ، هو مخير بلا شك !
يستطيع أن يعمل هذا العمل أو لا يعمله. يستطيع أن يتكلم أو يصمت. بل إنه يستطيع – إن أراد – أن يصلح أشياء كثيرة مما ورثها ، وأن يغير مما تعرض له من تأثير البيئة والتربية.
ويمكنه أن يلقى الماضى كله جانباً ، ويبدأ حياة جديدة مغايرة للماضى كله ، يتخلص فيها من كل التأثيرات السابقة التى تعرض لها منذ ولادته.
وكم من أناس استطاعوا فى كبرهم أن يتحرروا من تأثيرات البيئة والتربية والوارثة التى أحاطت بهم فى صغرهم. وذلك بدخولهم فى نطاق تأثيرات أخرى جديدة ، عن طريق القراءة ، أو الصداقة والعشرة ، أو بتأثير مرشدين روحيين ومعلمين جدد ، أو بتأثير الدين والإجتماعات كما حدث لأشخاص نشأوا فى حياة ضائعة وتابوا ، أو غيرهم نشاوا فى حياة روحية وضلوا.
وحتى من جهة المواهب أيضاً ..!
يمكنه أن ينمى المواهب التى ولد بها ، أو أن يضعفها بعدم الإستخدام. وقد يكون إنساناً قليل المواهب ، ويستطيع أن يتعهد هذا القليل بالممارسة و الإهتمام فتكبر مواهبة ، أو يكتسب مواهب لم تكن عنده ، ويصير فى حالة أفضل ممن ولد موهوباً وأهمل مواهبة.
وهناك أمور كثيرة تدل على أن الإنسان مخير لا مسير.
1- إن وجود الوصية الإلهية دليل على أن الإنسان مخير.
لأنه إن كان الإنسان مسيراً ، و لا يملك إرادته و لا حريته ، فما معنى الوصية إذن ؟! و ما فائدة الوصية إن كان الإنسان عاجزاً عن السير فيها ، وإن كان مسيراً على الرغم منه فى اتجاه عكسى ؟! و على رأى الشاعر الذى قال :
ألقاه فى اليم مكتوفاً وقال له إياك إياك أن تبتل بالماء
وحتى إن كان الإنسان مسيراً فى طريق الوصية ، فلا لزوم للوصية إذن. لأنه سيسير فى هذا الطريق بالذات ، وجدت الوصية إن لم توجد !!
ولكن الأمر المنطقى هو أن وجود الوصية دليل على أن الإنسان مخير ، هو فى حريته يتبع وصية الله أو لا يتبعها. وهذا ما نشاهده فعلاً. بإمكان الإنسان أن يطيع وصايا الله إن أراد. أو يعصاها إن أراد. لأن الله وهبه حرية الإرادة وحرية الإختيار. وضع أمامه الخير ، ولكنه لم يرغمه على السير فيه.
2- وجود الخطية دليل على أن الإنسان مخير.
فلو كان الإنسان مسيراً ، فهل من المعقول أن الله يسيره نحو الخطيئة ؟ وبذلك يكون شريكاً معه فى أرتكابها ؟! حاشا! إن هذا أمر لا يقبله العقل .. و لا يتفق مطلقاً مع طبيعة الله الذى هو قدوس وصالح ، يكره الشر و لا يوافق عليه ، و يدعو كل الناس إلى التوبة وترك الخطية.
إذن حينما توجد خطية ، يكون الإنسان قد فعلها باختياره و بإرادته ، أى أنه كان مخيراً فيما يفعله. إن كان الإنسان مخيراً فى فعل الشر ، فإنه بالأولى و بالأحرى يكون مخيراً فى فعل الخير ، ومخيراً أيضاً فى أن يتجه إلى التوبه وترك الخطية. والله يدعو الجميع إلى التوبة. و لكنه يتركهم إلى اختيارهم ، يتوبون أو لا يتوبون ..
3- وجود الدينونة دليل على أن الإنسان مخير.
مجرد وجود العقاب والثواب دليل على أن الإنسان مخير فيما يفعله. لأنه من أبسط قواعد العدل ، أن لا يحكم على إنسان ما لم يكن فى تصرفاته عاقلاً حراً مريداً. فإن ثبت انعدام الحرية والإرادة ، لا يحكم له أو عليه ، إذ أنه لا مسئولية حيث لا حرية.
وبناء على هذا لا يمكن أن يحكم الله على خاطئ بالعذاب الأبدى ، ما لم يكن هذا الإنسان بكامل اختياره قد شاء لنفسه السلوك الردئ وارتكبه ، فأخذ لنفسه جزاء إرادته وعمله. و على قدر ما تكون له من إرادة ، هكذا تكون عقوبته.
ومحال أن يعاقب الله إنساناً مسيراً ، لأنه ما ذنب هذا المسير! العقوبة بالأحرى تكون على من سيره نحو الخطأ. ونفس الكلام نقوله من ناحية الثواب. فالله يكافئ من فعل الخير باختياره .. بإرادته ورغبته .. أما إن كان مسيراً ، فإنه لا يستحق ثواباً.
4- وأخيراً ، نود أن نقدم أربع ملاحظات :
أولاً : إن الله يحث كل إنسان على الخير ، ويرشده ليبعد عن الخطأ. سواء عن طريق الضمير أو المرشدين والآباء والمعلمين ، وبكل عمل النعمة. و مع ذلك يتركه إلى اختياره يقبل أو لا يقبل.
ثانياً : إن الله يتدخل أحياناً لإيقاف شرور معينه ، يمنع من ارتكابها. و فى هذه الحالة لا يكون فضل لمن ترك هذا الشر ، و لا يكون له ثواب. هنا من أجل الصالح ، يسير الله الأمور بنفسه ، أو يحول الشر إلى خير. أما فى باقى أمور الإنسان العادية وتصرفاته فهو مخير ويملك إرادته.
ثالثاً : قد يفقد الإنسان إرادته بإرادته. أى أنه ربما بإرادته يستسلم لخطية معينة ، إلى أن تصير عادة أو طبعاً ( طبع فيه ) ، يخضع لها فيما بعد ويفعل ما يريده هذا الطبع ، وكأنه أمامه يغير إرادة .. ولكنها عدم إرادة ، تسببت عن إرادة سابقة ، فعلها الإنسان و هو مخير.
رابعاً : إن الله سيحاسب كل إنسان فى اليوم الأخير ، على قدر ما وهبه من عقل وإدراك ، وعلى قدر ما لديه من إمكانية وإرادة واختيار. ويضع الله فى اعتباره ظروف الإنسان ، و ما يتعرض له من ضغوط ، مدى قدرته أو عدم قدرته فى الإنتصار على هذه الضغوط.
المصدر: كتاب سنوات مع أسئلة الناس - بقلم المتنيح البابا شنودة الثالث ( معلم الأجيال ).
تعليقات
إرسال تعليق